تحقيقات
شاشة - باسكال صقر "بالشوارع" تُنادي قيامة الضمير الميت
تصدح أغنية تحاكي الإنسان الشريد، والتشرّد ليس أنّك بالضرورة بلا مأوى. تغنّي باسكال صقر نصّ انطوان جبارة "بالشوارع"، مُحمَّلاً بوجوه تنصاع الى مصير مشترك. الأغنية مأساة ولدٍ حافٍ لا يرتاد المدرسة، وخلاصة جيل خذله الحلم.
تواجه الأغنية (ألحان جبارة أيضاً، وتوزيع إحسان المنذر) الانهيار القائم، ليس بتكريسه وضعاً مأسوياً، بل بتأكيد إمكان الحلّ. بين السطور رفضٌ لتفشّي واقع أنّ ما يحوطنا ينخره التهالك، في السياسة والأمن والاجتماع والعقل، مُقارَباً بتحدٍ، من غير اعتماد الرثاء وسيلة الى القصد. لقاء جبارة وصقر له وقع، لثقة بكون المُنتَج غيره الكمّ المُدَّعي أنّه شأن. باتت نادرة الانتاجات القيّمة، وكلّ ما هناك مزاعمٌ مكشوفة النيات. ذلك أنّ نخراً يفتك محاولات التقدّم، محيلاً إياها على نتيجة عكسية، باستثناء هامات كالضوء المتّقد خارج السرب.
التزام صقر الأغنية المفيدة يجعل "بالشوارع" نداء. تفاصيل التقطتها المخرجة كريستال الياس ابرهيم، لولاها لظلّ الفيديو كليب أقلّ إضافة. لا يكفي استحضار مَشاهد من "الثورات" العربية للدلالة على خيبة الشعب، فذلك مُكرَّرٌ، وبالكاد نجت أغنية تحاكي التلوّع الحراكي من صوره. وهجُ الكليب شوارع ضيّقة فيها بشرٌ ليسوا بخير. تتعمّد الكاميرا التشبّث بالأمل عوض الانجراف نحو الهزيمة. يحوطنا ما يدعو الى إكثار مَشاهد الدم واستعارة قبور الموتى وويل الثكالى. يتجنّب العمل مجاراة الشرح الواحد لحقيقة أنّنا في الحضيض، تاركاً للرمزية التكفّل بالوظيفة.
الكليب بعض قراءةٍ متأنية لقسوة الشارع المُكبَّل بالاستبداد. هناك الضيق والدمع والطفولة المُهانة وتشابك أسلاك الكهرباء. تلتقط المخرجة البسيط المؤثّر، وعوض التفنّن في حبْك المصيبة، تُصوِّرها كما هي. غاية الكليب ليس النواح على تناسل الموت فينا. رجاؤه أن نرى الحال على حقيقتها بعد غشاوة غطّت الأبصار وحجبت المنطق. الشوارع قاهرة، فيها أولاد من غير ابتسامة. وفيها مَن ينتظر خبراً عن غائب، ويتوسّل ألا ترديه المصيبة. تُكتَب جروح عن صور تُظهِر المرء يتعذّب من أجل الحرية. نظرات والدة تحدّق بعيداً مدركة استحالة أن تصبح الحرب عظيمة. أيدٍ من خلف القضبان تناشد الهواء ألا يكون دكتاتورياً. مشاعل تُرفَع وخطى تسير نحو بدء جديد، فإذا ببشر أذلاء، يُبعَث الاهتراء في نفوسهم، ويفتك أبدانهم التشقق، إسوة بجدران لم تجد مَن يُصلِح لها وضعية.
أمكن الكليب عدم التفريط بالكثافة الرمزية لمصلحة مَشاهد مُقتطعة مما نألفه عن التظاهر. ليس هو نشرة أخبار أو تقرير جاف، فيفرض التزوّد من المخزون الأرشيفي لإضفاء نبض. في الصوت عنفوان لا ينكسر، وإن كان الظرف مريضاً. لا يُعاقَب الشعب على تحرّكه، تُقدَّر تضحياته، مُعوَّلاً عليها في عدم التوهّم بأنّ السلم رهنُ أبدية الأنظمة. لا ينساق العمل الى الوعظ، وليس المطلوب أن يُحاضر في الوطنية. نفتقد التعقّل، ونشاء لو يتجلّى في الحناجر والهِمم المُصرَّة على اجتراح أفق. أغنيات الوعي يضربها الشحّ، هي غيرها المُؤجِّجة لتعميق الاصطفاف وتمجيد الغريزة. جبارة - صقر تعاونٌ يُبقي على التفاؤل وسط التخاذل السائد: "صوت الجوع لمّا الناس يجوعوا، أقوى كتير من صوت المدافع".
مقاربة الظلم بمُتجبِّر مُتخَم، ينال من عرق الفلاحين إذ يتملّك تعبهم ويملأ معدته بكدّهم، مشهدٌ مُبكٍ على رغم كلاسيكيته، كالشطرنج القائل إنّ الخارج يدير اللعبة. نكرر مع صقر الحاجة الى الشِعر خلاصاً للبشرية. "وين الشعرا؟"، نداءٌ ليكون القلم ضميراً.